امرأة و الغيم قدرها
بصوت خفيّ، كصوت الأم عند رضيعها و هو يغفو، أصرخ. أنتزع الغيوم عن جسدي، و حبيباتها الصوفية التي تلعق وجهي. أبعثر ذرات غيم البارحة. يلتصق بي رمادها كالتصاق الحب بالظلمات. كالصفاد في العنق تتركني مغلولة. أصبحت لها سماء… تسكن ملامحي. في كل ميل من أميال وجودي غيمة، سوداء ثم بيضاء ثم البين بينهما، أصبحت امرأة للغيوم قدحًا يسكبها على بدني. امرأة الغيم، تسبح تسبح، تغرق في نهر الغيوم، لا تطفو. لا تسمك من قعور السماء أبدًا. امرأة و الغيم قدرها، أعود فأطوف حائمة بين غيومي. امرأة و الغيم قدرها و قد أخذ الرب مني الخصب، فلم أنجب إلا غيومًا، لا شحمًا و لا لحمًا. و لم يطرق بابي القدر مستأنسًا، قحم دربي و ارتمى بأحضاني لا عائدًا، ثم أطبق فمي على جزعي. بين يديه رأسي، يروح فيه للأسفل. في شباكه أوقع أذني، ثم همس ما اختار لي من قدر. لم يخبرني قدري بأقدار من حولي، مكثت أبحث و أبحث فلم أجد من يحتوي غيومي. تمرخت بدهن اليأس في مدينة اليبس مدينة قد نفيت منها السماوات
كذات الجبين المغضن التي تتمادى بثوبها من أمامي، أمام الأشجار تتمادى ضد ذاتها، و تطعن محياي بسكاكين نظراتها الشرزاء، كأنها تقرأ عنوان لبابي، و بعينيها تعريني من كل مستوراتي، فاستحيل كعراء الأرض الجدباء أصرخ بأسراري دون غشاء. لا تحتمل أن ترى كل غيومي فتنفر و أراها تركض كالظبي بعد إن اشتمت رائحة هندامي المتسخ بالغيوم. هي و آلافٌ غيرها، يسرعون إلى الغروب عني، فمتى فجري و طلوعي و ظهري؟ كأنني أصحب لافتة حمراء كتب عليها تحذير مني. لا أدري إن كنت في مدينة اليبس كاهنة في حانة، أم أنني لم ألتف بلحافي هربًا من اللهيب ثم بحثًا عن سماء تحتويني. أشعر بالوحدة كل يوم و لا أدري من قاتلها، أشعر بالعجز و ما زلت في ريعان طفولتي. هل أقطع الأميال الباترة حبل وصالي بغيري؟ عجز و يليه عجز و يليه سكون ثم مخالب تجتاحني بمعية الصدأ فتنطق و أفكاري بحوزتها: “و أنتَ أيضًا؟”
…أنتَ أيضًا
…أثقلتني
تحايلت على غيومي، عثرت عليك منتصبًا على حدود مدينة اليبس، و الدهشة أغشت عيني. قبضت على غيومي و في يومٍ لم ترى مني إلا طعم سهل الابتلاع للنسيان. يؤلمني أن أذكرك يا رجل السماء، حروفي تلدغ حراشفي و أنا أكتبك و أدونك في ذاكرتي. لكننك قد حرقت شكوكي بحرّة خداعك، و قلت لي: “إنني قد سافرت أميالاً إلى أن ارتمى نرد قدري في مدينة اليبس. ولدت جبليًا أهوى الشاهق و السامق، لا تستهويني القعور. جئت من بلاد الهند و الواق واق و السندباد، إنني بعيدٌ، بعيدٌ. و لو أمسكتي بمنظارك لما رأيت مني إلا خيالاً يسعى.” هكذا تكلمت و الزيف الخفي ينزف ألوانًا قاتمة من جلودك، رشفتها شفتاي. و بينما كان رداء من السذاجة يحاك على جسدي، خال لي إنني قد وجدت السماء التي تسمح لغيومي أن تنزف، أن تهزم، أن تسيل، أن تموت، أن تطفو و أن تحترق و أن تتساقط مزاعتها عبثًا كل دقيقة، أن تغشي بأمطارها وجدانك. لكنك غريب، ولله أغرب الغرب عني، لم نكن أبدًا سماء و غيوم، بل كنا البين لا نكتمل بأي من ما وجد و قد يوجد. كهلالين تحجروا في متاهة فلم يصلوا إلى البدر. لم تلتفت أبدًا إلى مغبتي، استرسلت كطائر مهاجر طمع بمدن أجمل، كلما وصل مدينة ظعن عنها، لعله يجد أجمل منها
لا أريد شيئًا إلا الخلاص من غيومي، كنت أنت الخطوة الأولى نحو حقيقتي، كأن في فمك ما لي من مصير:”يا امرأة الغيوم، لا مكان لك…” لم يلسعني شكٌ أوحد إلا من أين جئت، فأنا قد جئت من مدينة أودت بأبهتها أدمغة البشر الشرسة، و لكن أنت؟ من أين جئت؟ يا من حسبته رجل السماء، أنا و أنا، جئنا من تلك المدينة إلى مدينة اليبس، فإذ بجسدي نصفان، بين مدينتين، لا يكتمل إلى بدر إحداهما، بجسدي اثنان، مدينتان، ناران، جحيمان، و موتان. و أنت؟ أنت وجه و وجنات مدينتي القديمة. آه، كم كان نسيم النخيل يفرحني، و الآن صار بيديه اللزجات يخنقني. أنت أُرسلت لي من مدينتنا القديمة، جئتَ كما جئتُ قبل سنين إلى مدينة اليبس هربًا من الموت. دريت الآن و يا ليت جسدي قد صار أشلاء قبل أن أدرك ما أدرك. أنك نصفٌ من ترابي، و نصفي الآخر من تراب مدينة اليبس، فتشوه ترابي و لم أعد أمت لآدم بصلة، تدنس ترابي و انتصف بلا هوية، كاللص يستدير يمينًا يسارًا إلى القاضي مرةً و إلى المجني عليه مرةً. نصفي حاكمٌ في مدينة النخيل و نصفي الآخر عبدٌ في مدينة اليبس
ليست كلماتي مكتوب عذل بل مكتوب شكر و استدراك ذات على حافة، لست اكرهك، فقد قطعت شأوًا في درب لوعتك، و لا يسع أقدامي الآن أن تعود أدراجها، فأن تمضي في درب هواك متقدمةً أيسر من أن تعود على دربها الوعر من قبلك. والمذنب هنا دستور الغربة الذي حكمنا. و أنانية تاريخ الحرب الذي كتب قصتنا على الهامش ملحوظة عابرة. نحن و البين مدينتان، ضحايا بريئة
أقترفتك عبرةً لأنني اشتممت النخيل يفوح من مسامك، و لكننك يا رجل السماء، لم تكن إلا سماء مشرقة تأبى أن تعشق غير الشمس. مكثت أرسل غيومي إلى سماءك إلا أن شمسك قد أذابت غيومي شمعًا. تقذف بسديمي فيلتجأ إلى ثوبي. و الآن أهيم في حبك، و أمتن لخداعك. أحبك بمقابل، و إن لم أكن أدري مقابلي. لأنك يا رجل السماء، خدعتني فإذ بخدعتي الأولى تنجلي. شغفتني بخداعك وليد الخير. ظننت أنك محتويني، إلا إنك يا قرة عذابي، جعلت كُنهي يبزغ. ألقمتني بعد مكيدتك الطيبة حقيقتي، فكأنك تروم و تحادثني:”يا امرأة الغيوم، لا مكان لك، لأنك بين مكانين.” فلماذا طمعت بمدينتين؟ و في حرم الطمع تدنس ترابي الذي لم يشوبه غريب